فيما يقترب الشغور الرئاسي من إكمال عامه الثاني، ودخول عامه الثالث، ليفضح عجزًا كاملاً من جانب مجلس النواب الذي أخفق في التصدّي لواجبه الدستوري بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 30 تشرين الأول 2022، كان يفترض "منطقيًا" أن يكون أحد الحلول هو الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، كما تفعل الدول عادة في مواجهة أزمات من هذا النوع، بمعزل عن مدى نجاعة مثل هذا الحلّ.
لكنّ المفاجأة، وإن كانت متوقَّعة بالنظر إلى سجلّ الطبقة السياسية الحافِل، تكمن في أنّ العكس تمامًا هو ما يفكّر به أركانها، حيث لا تخلو الصالونات السياسية من حديث متصاعد عن مسعى لـ"مكافأة" البرلمان على عجزه هذا، عبر تمديد ولايته بكلّ بساطة، بل إنّ "الذريعة" لتبرير هذا التمديد قد تكون الشغور الرئاسي، الذي يتحمّل المجلس النيابي مسؤوليته أساسًا، والذي يقع على عاتقه أولاً وأخيرًا عبء إعادة الانتظام للحياة الدستورية في البلد.
ولعلّ هذه الهواجس والمخاوف خرجت إلى العلن بعد الحديث الصحفي الأخير لرئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي أثار فيه "إشكاليّة" قانون الانتخاب، حين سُئل عن تأثير الشغور الرئاسي على الانتخابات النيابية، فقال "إننا سنكون أمام مشكلة أخرى"، هي "قانون الانتخاب المُختلَف عليه بين من يريده ومن لا يريده، والحاجة إلى إعادة النظر فيه"، مضيفًا أنّه في كلّ الأحوال، "لا يصلح للتطبيق"، مستندًا في ذلك إلى المادة 122 الخاصة بـ"نواب الاغتراب".
وإذا كان بري أوضح أنّ نواب الاغتراب "لم يُصَر بعد إلى تحديدهم وتوزّعهم على الطوائف والقارات"، فإنّ موقفه أثار الكثير من التكهّنات، خصوصًا أنّ صيغة قانونية سمحت بإجراء الانتخابات الأخيرة في العام 2022، بعد تعليق العمل بهذه الفقرة، من جانب مجلس النواب، فلماذا يصبح الأمر "مشكلة" الآن، وهل فعلاً أراد بري التمهيد للتمديد للبرلمان بصورة أو بأخرى من خلال كلامه هذا، أو بالحدّ الأدنى، "جسّ النبض" بانتظار اللحظة "الحاسمة"؟!.
من حيث المبدأ، يقول العارفون إنّ كلام بري عن قانون الانتخاب قد يكون واقعيًا، إذ إنّه بعد تجربته مرّتين، لا يصنَّف "مثاليًا"، وثمّة الكثير من التحفّظات والملاحظات بشأنه، كما أنّ المادة الخاصة بنواب الاغتراب تثير الكثير من الجدل، في ضوء الغموض المحيط بكيفية وآلية تطبيقها، إلا أنّ المشكلة في مقاربة تصريحات بري، تبقى في "توقيت" إثارة النقاش حول الأمر، وهو العالِم أنّه يتطلّب "ورشة تشريعية" لا تبدو "مُتاحة" في ظلّ الشغور في سُدّة الرئاسة.
لكنّ المحسوبين على رئيس مجلس النواب يرفضون هذه المقاربة، ويؤكّدون أنّ بري "تعمّد" فتح النقاش باكرًا حول "إشكالية" قانون الانتخاب، وذلك قبل سنة ونصف من الموعد المفترض للانتخابات النيابية، حتى لا يُقال إنّه تعمّد إثارة المسألة في "ربع الساعة الأخير"، من أجل جرّ البلاد إلى "تمديد قسري"، أو ربما "تقني" للبرلمان، علمًا أنّ مدّة السنة والنصف يمكن أن يتغيّر فيها الكثير إذا ما توافرت النوايا الصادقة بالمعالجة الجدّية.
يشير هؤلاء إلى أنّ ما فعله رئيس المجلس بتصريحه الأخير حول قانون الانتخاب، أنّه أثار إشكالية موجودة وواقعية ولا يمكن القفز فوقها، فتطبيق قانون الانتخاب حاليًا غير ممكن، أقّله في ما يتعلق بالمادة المرتبطة بنواب المغتربين، الذين حُدّد عددهم بستّة، لكن لم يتمّ تحديد آلية انتخابهم، وكيفية توزيعهم سواء على الطوائف أو القارات، علمًا أنّ هناك من يعترض على أصل فكرة وجود نواب للمغتربين، وكأنّ هؤلاء يشكّلون دائرة منفصلة.
وأبعد من الإشكالية المرتبطة بهذه المادة، يقول المحسوبون على بري إنّ "ورشة إصلاحية" مطلوبة بخصوص قانون الانتخاب، الذي أثبتت تجربته مرّتين متتاليتين، أنّه يعاني من ثغرات كثيرة، بدليل التفاوت بين الدوائر، الذي يؤدي لوصول نواب بعدد قليل جدًا من الأصوات، من دون أن ننسى أنّ هناك الكثير من الإصلاحات المطلوبة تبقى عصيّة على التنفيذ، بما في ذلك الاقتراع مكان السكن، والميغاسنتر، وغير ذلك.
يقول المحسوبون على رئيس المجلس إذًا إنّ ما توخّاه بري ليس التمهيد للتمديد للبرلمان، بل "استباق" المشكلة التي ستظهر في ربع الساعة الأخير بشأن قانون الانتخاب، والدعوة لإعادة النظر فيه من الآن، لكنّ "إعادة النظر" هذه تثير توجّس، بل ريبة، الكثيرين خصوصًا في صفوف المعارضة، التي تخشى أوساطها أن يكون كلام بري بمثابة "تحضير عملي" لمشروع التمديد، وبالتالي وضعه على النار، سواء كانت باردة أم حامية.
في هذا السياق، يشير المعارضون إلى أنّ بند "نواب الاغتراب" لا يجب أن يكون حائلاً دون إجراء الانتخابات في كلّ الأحوال، إذ ثمّة سنة ونصف السنة تفصل عن موعد هذه الانتخابات، يمكن أن يُصار فيها إلى تحديد الآلية المعتمَدة لتطبيق هذا البند، أو في حال عدم التوافق على مثل هذه الآلية، يمكن تكرار السيناريو الذي اعتُمِد في انتخابات 2022، وبالتالي تعليق العمل بهذه المادة، من أجل المضيّ بإجراء الانتخابات.
أما الكلام عن "إعادة النظر" بالقانون الانتخابي ككلّ، في ظلّ الظروف الحاليّة، وفي ضوء الشغور الرئاسي الذي يحوّل مجلس النواب إلى "هيئة ناخبة"، لا يفترض أن تمارس التشريع، إلا بحدود "الضرورة القصوى"، ولو أنّ البعض يرفض هذا الاجتهاد حتى، فيدعو للتشكيك بالنوايا المبطنة خلفه، وفق المعارضين، ولا سيما أنّ الانطباع بأنّ قانون الانتخاب غير صالح، يعني إطلاق ورشة كبرى، تحتاج لأكثر من سنة في الظروف العاديّة.
وفيما يحذّر هؤلاء من أن يكون الهدف المبيّت خلف الدعوة لإعادة النظر بقانون الانتخاب، التحضير لفكرة التمديد، ولو تحت عنوان "تقني" كما جرى عند إقرار القانون مثلاً، فإنّهم يشيرون إلى أنّ هذا الأمر يجب أن يكون مرفوضًا، لأنّ الأصل هو إجراء الانتخابات ومن بعدها إطلاق مثل هذه الورشة، مع بداية الولاية وليس في منتصفها أو في نهايتها، علمًا أنّ الأساس يبقى الآن أن ينكبّ مجلس النواب على تحمّل مسؤولياته وانتخاب رئيس للجمهورية.
ينفي المحسوبون على رئيس المجلس إذاً أن يكون ما قاله في تصريحه المثير للجدل، بمثابة تمهيد للتمديد، ويصرّ المعارضون على أنّهم سيتصدّون لمثل هذا المشروع، باعتبار أن نواب الاغتراب لا يحولون دون إجراء الانتخاب. وبين هؤلاء وأولئك، يخشى اللبنانيون أن يكون السيناريو قد اكتمل، بتواطؤ ضمني بين كلّ الأطراف، في وقتٍ لا جدال في أنّ المجلس النيابي الحالي لا يستحقّ "فرصة ثانية"، وهو الذي لم يقم بالحدّ الأدنى من واجباته!.